أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ

أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ
محمد مسعد ياقوت

لعلك قد علمتَ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بايع أصحابه ـ في بيعة العقبة الكبرى ـ على خمسة أمور ، كان ثالثها بنداً في: "الأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْىِ عَنِ الْمُنْكَرِ"! ( انظر مقالتنا عن هذه البيعة، على صفحات هذا الموقع الكريم)..العجيب أن البند الذي تلا بند الأمر بالمعروف هو بند "كلمة الحق " ـ البند الرابع ـ، الذي يقول فيه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ، لاَ تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ". ولا شك أن كلمة الحق داخلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..ثم يأتي البند الخامس، بند " النصرة "، ذلك الذي قال فيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي؛ فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ"»[أحمد:4830، السلسلة الصحيحة: 63]، وهو يدخل ـ إلى حد كبير ـ في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

نعم، كان شرطه في الذين يتأهلون إلى شرف النصرة والصحبة أن يبايعوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..إنه يريد أن يؤسس دولة الإسلام في المدينة على سواعد رجالٍ: على درجة فائقة من الإيجابية والنصح والرغبة في التغيير، يقولون كلمة الحق لا يخشون في الله لومة لائم، ينصرونه، ويذودون عن الإسلام، ويموتون دونه.

أرأيتكم؛ إن كانت البيعة من أناس لا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرًا؛ أكانت تقوم للإسلام دولة ؟ أرأيتكم؛ إن كانت بيعة أناسٍ جبناء، يخافون أن ينطقوا بكلمة الحق في وجه الطغاة؛ أكانت تكون لهم جولة؟

طريق الخيرية:

إنه الأصل الكبير الذي ميز هذه الأمة عن غيرها ونالت به شرف الخيرية على سائر الملل والنحل والحضارات والأمم: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر" [آل عمران110].

طريق الإصلاح:

ذلكم الأصل الذي شرع الله من أجله جماعات الدعوة، وقرر فيه شعيرة إسلامية مهمة هي شعيرة " الحسبة والاحتساب "؛ حيث تنبري طائفةٌ من المسلمين تمشي بين الناس تأمر فيهم بالمعروف وتنهى فيهم عن المنكر، وقد كان الخلفاء الراشدون حراصًا على إقامة نظام الاحتساب، وقد ولى عمر بن الخطاب امرأةً ـ هي الشفاء ـ على شؤون الحسبة في أسواق المسلمين، وذلك تنفيذًا لأمر الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[ آل عمران:104]..وهؤلاء يقول فيهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ، حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ " [ مسلم: 71 ]

طريقة الرحمة:

ذلكم الأصل الذي هو علامة من علامات الإيمان، وصفة من صفات المؤمنين والمؤمنات، وما يجب عليهم أن يتواصوا به:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ، أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ، إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }[التوبة: 71].

لاحظ أن الله تعالى قدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على إقامة الصلاة..ولاحظ أيضًا أن الله وعدهم برحمته، فقال: "أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ "ـ وذلك لما آمنوا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة..وقد صنف الإمام مسلم بابًا تحت عنوان " بَاب: بَيَانِ كَوْنِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاجِبَانِ"، ثم أورد الحديث الجامع: " مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ"[مسلم:70].

الأمر بالمعروف.. أو اللعنة:

فإما أمرٌ بمعروف وإما لعنة من الله، إما أن يتحرك الناسُ ينهون عن المنكر وإما هلاك المجتمع ودماره. وقد لعن الله أمةً وأرداهم لما فرطوا في فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: قال الله تعالى: "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ"!

وما السبب في دمارهم؟ "ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ"..ما هي طبيعة عصاينهم وعدوانهم؟ "كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ـ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ"[المائدة، 78، 79]...وقد كان الواحد من بني إسرائيل يزجر الناس عن الحرام، وسرعان ما يواقع ما يواقعونه من الحرام، فضرب الله على قلوبهم وأهلكهم ولعنهم لعنًا كبيرًا..ولقد حذرنا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مغبة ترك الظالم يظلم، والفاسق يفسق، والفاسد يفسد، وأخبر أن ذلك أدعى لحلول الكوارث والمصائب على رأس المجتمع، فقال: " إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ؛ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابِهِ " [ أحمد: 16، وصححه الألباني، انظر حديث رقم: 1974 في صحيح الجامع ].

أو كما قال: "مَثَلُ الْقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا،كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا، إِذَا اسْتَقَوْا مِنْ الْمَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا، هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعًا" [ البخاري: 2313]..لقد كانت سيرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مذ أن وقف على جبل الصفا يخطب في المشركين إلى أن وقف على جبل عرفات يخطب في المسلمين ـ سيرة وقصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

كثيرًا ما تقرأ قصة أو غزوة من السيرة وتخرج بدرس أساسي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..ثم إذا فتحت مجلدًا من كتب السنة المطهرة؛ سرعان ما تقع عيناك على أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وتراه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمر بالعدل والمساواة، والحلم والأناة، والرفق والذوق، الإحسان والإتقان، الجهاد بالنفس والمال، البر وصلة الأرحام، حسن الجوار وإكرام الجار، العفة وغض الأبصار، إكرام الضيفان، احترام الكبير، الرأفة بالصغير، كفالة اليتيم، الحض على طعام المسكين، قضاء حوائج المسلمين، الإصلاح بين الناس، الإصلاح بين المتخاصمين، فك العاني والأسير، إطعام الطعام، إغاثة اللهفان، إنقاذ المكروب، صدقة السر، إخراج زكاة المال، القرض الحسن، تزويج الفقراء، دعاء المسلم لأخيه المسلم بظهر الغيب.

وتراه يُحذر من عاقبة الشرك، القتل، والظلم، والجبن، والزنى، واللواط، والقمار، والسرقة، والسحر، والحسد، والحقد، والغيبة، والنميمة، والبهتان، والتجسس، والتلصص، والغش، والرشوة، والمداهنة، والاحتكار، والخيانة، والكذب، والعدوان، والقطيعة، والقسوة، والجفاء، والشماتة، والغفلة، والعقوق، السرف، الإقتار، والطيش، والتخنث، والميوعة، والدياثة، والمخادنة، والمساحقة، واليأس، والتشاؤم، وكراهية النصيحة، ومفارقة الجماعة، الركون إلى الدنيا، قبول السعاية، الإعراض عن الذكر، الإصرار على المعصية، الأمن من مكر الله، اليأس من روح الله، الذبح لغير الله، وتعطيل الجهاد، وترك الصلاة، ومنع الزكاة ، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، وشهادة الزور، وشرب الخمور، ونكران الجميل، وقطع الطريق، وترك الحريق، وبخس المكاييل، واليمين الغموس، وجباية المكوس، وحبس البريء، وحبس القطة، وإيذاء الدابة، وغصب الأراضي، وتتبع العورات، وأكل حق البنات، وعزل الصالح وتولية الطالح، والفرار من الجهاد، والفرار من الطاعون، واتهام المؤمنات العفيفات في أعراضهن..كان نطقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذكرًا أو نصحًا. ولنا فيه الأسوة، بل لا نجاة لنا إلا بمنهجه وسنته. فإن كنت تريد صحبته، فأمر بما كان يأمر وانه عما كان ينهى عنه.

اجعل سمتك العام بين الناس: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..اجعل شعارك بين إخوانك: النصح لكل مسلم، كبير وصغير، حاكم ومحكوم، فالدين النصيحة، بل إنما الدين النصح، وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبايع الواحد من الصحابة على: "عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ" [ مسلم: 84 ].، وقال: " الدِّينُ النَّصِيحَةُ ... لِلَّهِ، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ" [ مسلم: 82 ].

همسة: ترى المنكر أمامك، وترى الظلم قدامك، فتسكت إيثارًا للسلامة.. ولم تعلم بعد أنها الهلكة بعينها.

حكمة: إن رجلاً عاقلاً علم أنه ميت؛ فأحبها أن تكون ميتة من أجل الحق؛ ومرارة الحق خير من حلاوة الباطل، والمنية ولا الدنية، والتجلد لا التبلد، وقبر الشجاع خير من قصر الجبان.

قصة: الدجاجة سقطت من فوق المنزل. أطفال البيت احتوشوها. الأطفال يبكون؛ لقد انقطع الدعم اليومي..قال طفلٌ منهم باكيًا: ـ لا بيض بعد اليوم ! قال طفلٌ آخر ناصحًا:ـ اصنعوا سورًا للسطح يحوط الدجاج، أو تعالوا نبْكِ كل يوم على دجاجة وهذا أسهل لنا !

نصيحة: مالك لن ينفعك، وولدك لن يدفع لك حسنة واحدة يوم القيامة، هذه الحسنة بعينها هي التي ضاعت منك في مشهد غابت فيه كلمة الحق، وقلت: أسكتُ من أجل تربية عيالي.

إلى النفوس الساكتة : والشعر لقطريّ بن الفجاءة:

أقولُ لها إذا جاشتْ حياء ... من الأبطالِ ويحَك لن تُراعِي

فإنَّكِ لو طلبتِ حياةَ يوم ... على الأجلِ الَّذي لكِ لَن تُطاعي

فصبراً في مجال الموتِ صبراً ... فيما نيلُ الخلودِ بمُستطاعِ

توصية عملية: من أول لحظة خروجك من المنزل وحتى دخولك له؛ لا تدع مسلمًا إلا سلمت عليه، ولا غائبًا إلا سألت عنه، ولا ضالاً إلا نصحته، ولا مكروبًا إلا واسيته، ولا ظالمًا إلا ردعته، ولا فاسقًا إلا قومته، واحصد في آخر يومك، واكتب ودون، واسأل نفسك: كم نصحتُ اليوم ؟ كم أمرتُ بمعروف ؟ كم نهيتُ عن منكر؟

ــــــــــــــــــــــــ

** عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، المشرف العام على موقع نبي الرحمة.

اللهم ارحمنا في الدنيا والاخرة وتحت الارض ويوم العرض عليك

بارك الله فيكي اخي

احسن الله لك اخي الفاضل